المقدمة
يهتم المصمم والناقد على السواء بما تعنيه الاشكال المعمارية المصممة ، اذ تتميز الاشكال المعمارية عن بعضها في مدى تحقيقها لغايات معينه تعتبر معاييرا لتلك الفترة التي ولد فيها هذا الأثر او ذاك ، هذه المعايير تبلورها وتحددها نظرية العمارة . فمنهم من اعتبر الشكل المعماري (الجيد) من عبر عن وظيفته المخصص لها... وقد تميزت اشكال كثيرة في بداية القرن العشرين طبقا الى هذا المعيار، ومنهم من اعتبر الشكل المعماري نصا مشابها للنص اللغوي يحمل رسالة مشفره باستخدام عناصر معمارية معروفة سابقا وتوظيفها في كتابة هذه النصوص ، كذلك تميزت اشكال معمارية جديدة وفقا لهذا المعيار ... ومنهم من ركز على امكانات مادة البناء في تكوين أشكاله .... اذ ان معايير التقييم متغيره تتطور على مر الزمن ، ولكي تمر الاشكال المعمارية الجديدة الى ارض الواقع وتقطف المراكز الأولى في المسابقات عليها ان تمتثل لمعايير معينه يمكن مناقشتها وتفهمها من الناقد استنادا الى الأرضية المشتركة التي أسستها نظرية الشكل مسبقا , إذ يفترض بالمصمم اقناع نقاده بتبني هذه الاشكال دون غيرها في تأليف الشكل قيد التقييم , أي ان المصمم يقنع نقاده وبالتالي الجمهور من خلال تبريراته لاستخدام هذه الاشكال دون غيرها ، وهذا ما تحاول هذه المقالة التركيز عليه وتبيان تجليات أفكار المصمم وانتقاء شكلا دون آخر ودور النظرية في ذلك .
تُستهل هذه المقالة بالدراسة اللغوية والمقارنات مع التكوينات المعمارية في تأليف الشكل النهائي كونها (الدراسات اللغوية) اهتمت بالشكل المعماري وتبريرات الاشكال المستخدمة أكثر مقارنة بالنظريات الأخرى ولقابلية مناقشة أسباب تبني الاشكال المعمارية عموما في إطار اللغة خصوصا . اذ تحاول هذه المقالة استكشاف تعلق الاشكال المعمارية بنظريات تكوينها ، بأسباب انتقاء هذه الاشكال والعلاقات دون غيرها. ثم سيصار في مقالة لاحقة الى استكشاف الامكانيه في تغيير هذا الاعتقاد لتوليد استراتيجيات جديدة في التشكيل المعماري تذهب ابعد مما أفرزته اللغة في العمارة .
العرض-
يعتقد الكثير من النقاد إن العمارة لغة يمكن لمن عرف أبجديتها
قراءتها وفهم معانيها المضمرة خلف نصوصها ،او انها رموز لمعاني معينه تقبع تحت هذه الرموز، أي انها تعتبر لغة طالما احتوت على معاني خلف رموزها ، مُحاكاةً لفكرة اللغة والكلمة رمز لمعنى خلفها ... ولان هذا الاعتقاد يسود الوسط المعماري , ذهب المعماريون الى سبر بحر اللغة واستلهام مفاهيمها في تصنيع أشكالهم المعمارية وتشكيلها , بل وظفت آليات لغوية في نحت الشكل المعماري وانتقدت هذه الاشكال طبقا الى نظريات لغوية أيضا . فقد طُرِحت كثير من الدراسات المعمارية في المقارنات والاستراتيجيات اللغوية وتوظيفها كاستراتيجينا تصميميه تنطلق من إن الشكل المعماري نص ، سيما النظرية البنيوية و التفكيكية.
وعند استقراء هذه الدراسات يُثار التساؤل الأتي , هل يمكن تلقي العمارة على أنها (لا تمثل لغة معينه او رموزا لمعانٍ معينه؟؟)
هل ان نهل الدراسات المعمارية من الحقول المتاخمة سيما اللغوية أوقعها في حبال اللغة ، أم أنها لغة أصلا والدراسات المعمارية في المضمار أجلت هذه الحقيقة !!!
فلكي نجيب هذا التساؤل نطرح الفرضية المضادة لهو ، وهي ( إذا لم تكن العمارة لغة رموز ماذا يمكن أن تكون؟؟)
فلكي يتفق القارئ مع الباحث يجب أولا توضيح معنى اللغة كتعريف إجرائي في سياق المقالة.
انها (معنى معين يختفي خلف الشكل المعماري المصمم يتحقق من خلال استخدام عناصر معمارية في علاقات معينه معروفه لدى المصمم والمتلقي قبل ولادة الشكل قيد التصميم. هذه العناصر والعلاقات تحمل معانيها نتيجة تكرارها في أشكال معينه خدمة لغاية محدده , ارتباط هذه العناصر بغاياتها نتيجة للتكرار هذه العناصر في تمثيل غاياتها , وبالتالي إمكانية توظيف هذه العناصر في غايات جديدة وبناء معاني جديدة من خلال ترابط هذه العناصر بعد إزاحتها باتجاهات معينه طبقا لغاية المصمم أسوة ببناء النصوص الأدبية من تركيب المفردات في علاقات معينه سيما وان ان هذه العلاقات غير واضحة مقارنة بالعلاقات اللغوية ) .
هذه العناصر يمكن مقارنتها بالمفاهيم اللغوية اكثر وليس المفردات لان معاني هذه العناصر واسعة مقارنة بالمفردة اللغوية ومشوشة التعريف نتيجة ترحالها وتجوالها وتوضيفها لغايات مختلفة .
ان استخدام المصمم لعنصر دون آخر يجبره ان يدعم هذا الاختيار باسباب واضحة تحقق الاتفاق مع الناقد ، وان كان أنكر ذلك فان الشكل ينطق بهذه الأسباب وفقا للمعايير السارية (والتي هي لغوية في هذه الحالة ) لذلك نظرية اللغة في العمارة هي عالم ثر لا ينضب لهذه التبريرات ، اذ يسهل على المصمم دعم أي شكل معين بمدى واسع من المعاني ، وفرة هذه التبريرات وتراخي ارتباطها باشكالها يخلق حالة من (تهكم) الناقد او المصمم لهذه المعاني لتنوعها الكبير, إذ أضحى بامكان المصمم ان يبرر كل أشكاله باتجاه غاية معينه او كل الغايات باتجاه شكل معين , وبالتالي أصبحت النظرية في العمارة مثبطا لاستمرار المصمم في إيجاد الاشكال الجديدة الملائمة لغاياتها , فهو قادر على التبرير متى شاء وكيف ما شاء , فبمجرد توفر الإجابات عن استخداماته لشكل دون آخر توقف تطور المشروع . وهذا ما يلاحظ في الأوساط الطلابية لدارسين العمارة , إذ إن دافع تطور الشكل المعماري يتراجع بتوفر الإجابات والمبررات لاستخدام هذا الشكل او ذاك , وربما يكون هذا التأثير قليلا في إشكال المصممين المحترفين الذين تجاوزت خبراتهم للنظرية الواحدة فهم يستمدون قوى استمرارهم في تصاميمهم من خبراتهم المتراكمة التي سبقت النظرية اللغوية او لحقتها . هذا العيب لا يتعلق بالنظرية اللغوية فقط بل بكل النظرية المعمارية المتعلقة بالشكل ، إذ انها تثبط تشكيل الشكل حال الوصول الى الاتفاق مع الزبون او الناقد بان هذا الشكل أصبح يمثل هذه الغاية ,او تلك الوظيفة ...... ,
إذن هل هناك بديل للنظرية ؟ هل للمصمم إن يجد أشكال مميزه دون النظرية الشكلية ؟
و ماذا يحصل في حال إهمال التبريرات من قبل المصمم وعدم اكتراثه بما تعنيه أشكاله لمتلقيها.....؟؟؟
سيمكنه ذلك من استخدام كافة الاشكال في كافة الغايات والاتجاهات دون الحاجة للمعاناة في اختيار احدها دون الآخر فالكل ملائم للكل في غياب النظرية !!! إذن ستنهار نظرية الشفرة والمعنى المحدد في العمارة تاركة المصمم والناقد في غياهب الصمت وتلقي العمل جملة لا تفصيل ، دون الاعتراض طالما لا توجد أرضية وتعار يف مشتركة بينهما .
الاستنتاج
يُستنتج ان النظرية ابتدعت من المصمم والناقد بالضرورة لتحقيق معيار تقيم استنادا الى
أرضية مشتركة تجعل طرفا قادرا على إقناع الآخر . لذلك لا يمكن للنظرية ان تنهار ، لا يمكن للمصمم التفاهم مع جمهوره دون تعاريف مشتركة ، لا يمكننا تقبل تكوين شكلي دون نظريه طالما هناك ضرورة لاقتناع المتلقي بالشكل الجديد وتقبله ، ضرورة لوجود مبررا يمنح المصمم الثقة في تقديم اشكاله دون غيرها
، وطبعا ذلك ناتج من إن النظرية اللغوية حالها حال النظريات التي سبقتها في تكوين الاشكال النظرية الوظيفية ,النظرية العضوية ,.... الاستدامة ، جميعها تبحث عن أرضية جديدة تحقق الاتفاق بين المصمم والزبون تجعله يتفهم وجهة نظر المصمم وبالتالي توقف تطور الشكل المعماري عن هذه النقطة.
و الملاحظ ان هذه النظريات تشابهت في أسباب طرحها اذ انها تولد حول محور غير معلن وهو الاختلاف عما سبق؟ وكل نظريه هي التبرير لهذا الاختلاف . لقد تبنى الوظيفيون أشكالهم لاعتقادهم بان الوظيفة الجيدة تخلق شكلا جيد ،تكرار بناء الاشكال المعمارية وفقا لهذا المعيار أنتج ملل المتلقي من هذه الاشكال فتسابق النقاد والمصممين الى توفير أرضية جديدة لتأليف أشكال جديدة اعتمدت الشكل التاريخي الذي يتطور بضرورات الحاضر كتبرير للهوية المفقودة في الاشكال التي سبقتها وهي اختلفت بذلك في أشكالها عن الوظيفية ، وهذا هو لب القضية ، ينتقل المعماريين بعدها الى نظرية أدبية فلسفية متمثلة بالتفكيك ، والتي تهكمت على التاريخية مبرره ذاتها بالتطور الحاصل في كل الحقول وضرورة التعقيد تناسبا مع المتاخم من الحقول ولذلك اختلفت عن سابقتها .... فالتكاملية فالاستدامة , الكل يتبنى النظرية الجديدة لأنه يبحث عن أشكال مختلفة عن السابق وهذه النظريات هي التي تمثل الأرضية المشتركة مع النقاد تجعلهم يقبلون هذا الشكل ويثنون عليه دون غيره، الاختلاف هو الهاجس ، وفي النظرية لتبرير الاشكال بالضرورة، اذ ان عدم النظرية يعني ان التكوينات المعمارية تدور هي ومعانيها في ذهن المصمم فقط . لا يمكن قبولها من الآخر. فتخيل إن شكلا من العمارة المعاصرة عاد الى القرن السابع عشر ...؟؟ بالتأكيد سيبقى معزولا ، لا يمكن تقبله بالدرجة التي يثنى عليه في عصره .
فالشكل المعماري هو بأمس الحاجة الى هذا التغيير المستمر سمة طبيعية للإبداع ، وسأما للملل والتكرار ، والنظرية المعمارية في الشكل تُعبد الطريق لتقبل هذه الاشكال الجديدة . والشكل المعماري يختلف عن غيره من جوانب العمارة في كونه قابل لاستيعاب أنواع كثيرة من النظريات تسحبه في اتجاهات مختلفة تمنحه ديمومته وشبابه.
لذلك فان تبني نظريات جديدة في التشكيل المعماري بالضرورة .اما الرأي القائل بان( كل نظريه جديدة تولد بالضرورة لسد النقص في النظرية التي سبقتها) هذا الرأي لا يفصح ولا يشير الى ان سبب تبني النظرية الجديدة هو رغبه من المصمم لحل أزمة تجديد الاشكال الملحة ، وفرضية سد نقص النظرية السابقة مبررا .اي إن ولادة النظريات وتبنيها في تكوين الاشكال المعمارية ليس بسبب النقد للنظرية السابقة بل للحاجة الملحة لتوفير تنويع جديد وكبير في الاشكال بعد ان استنفذت النظرية السابقة أشكالها ، وهذا ما يختلف به تبني النظريات في الفن بصورة عامة عن تبني النظريات في العلم الذي يعتمد في بنائه لنظرياته على نقد النظرية السابقة . البحث عن الاختلاف عما سبق إلحاحاً وحاجة في كل أشكال الفن ، يقود نظرية التشكيل شرقا وغربا ليلا ونهارا سرا وجهارا كي تحيى ولا تعقم .
لذلك فان التركيز على عيوب النظرية السابقة هو مبرر فقط لتبني النظرية الجديدة في كونها أفضل من سابقتها ولذلك انتقاها المصمم دون غيرها ، فيتقبلها ناقده اذا اقتنع بهذا التصحيح والمبرر وهكذا تولد النظرية ، وتنمو مع الزمن....
يستنتج من ذلك ان للمصمم حق في تبني أي نظريه طالما تحقق له هذه النظرية اختلافا في الاشكال عما سبق . فمحور الاختلاف هو محور توالد وتهافت نظريات الشكل المعماري ، وأشكال هذا المصمم تعتبر رائده ومبتكره دائما لأنها ولدت من رحم النظرية الباكر وسوى ذلك هو استنساخ لما سبق ، ولا بد له ان يحصل كي يستنفذ امكانات هذه النظرية وتشح وليداتها من الاشكال ، فتبزغ وتتنفس الأخرى على إطلالها.... بالضرورة